السمك المغربي: ثروة تصبح رفاهية.. لماذا يدفع المواطن ثمن التصدير والفوضى؟

"السمك المغربي: ثروة تصبح رفاهية.. لماذا يدفع المواطن ثمن التصدير والفوضى؟"
يعيش المغرب مفارقة غريبة: بلد يمتلك واحدة من أغنى الثروات السمكية في العالم، بإنتاج سنوي يتجاوز 1.5 مليون طن، ومع ذلك يجد مواطنوه أنفسهم عاجزين عن شراء الأسماك التي كانت يوماً طعام "الفقراء". السردين، رمز المائدة المغربية، أصبح سلعة فاخرة، والأخطبوط الذي يزين الأطباق الأوروبية يغيب عن موائد أهل البلد. فما الذي يقف وراء هذا الغلاء؟ وهل التصدير إلى أوروبا هو السبب الوحيد، أم أن هناك أزمة أعمق تتعلق بالسياسات والفوضى الداخلية؟


ثروة بحرية تحت المجهر

المغرب، بفضل موقعه الجغرافي المميز على المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، يعد من أكبر منتجي الأسماك في إفريقيا والمنطقة العربية. السردين، الماكريل، الأنشوجة، والأخطبوط تشكل العمود الفقري لصادراته البحرية، التي تستهدف أسواق أوروبا وآسيا بنسبة كبيرة. لكن هذا النجاح الخارجي يأتي على حساب السوق المحلية، حيث تتزايد الشكاوى من نقص المعروض وارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق.

على منصة إكس، يتبادل المغاربة يومياً قصصاً عن أسعار السردين التي تصل أحياناً إلى 40 درهماً للكيلوغرام في المدن الكبرى مثل الدار البيضاء والرباط، بينما يباع في الأسواق الأوروبية بأقل من نصف هذا السعر.

التصدير: نعمة أم نقمة؟

لا يمكن إنكار أن التصدير يدر عائدات ضخمة للاقتصاد المغربي، حيث تشير تقديرات رسمية إلى أن القطاع السمكي يساهم بحوالي 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي ويوفر أكثر من 700 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة. لكن هذا النجاح يثير تساؤلات حول توزيع الفائدة. ففي ظل غياب سياسة واضحة لضمان اكتفاء السوق المحلية قبل التصدير، يتم توجيه النصيب الأكبر من الإنتاج إلى الخارج، تاركاً المواطن العادي يواجه أسعاراً لا تتناسب مع دخله.

أشار أحد النشطاء إلى أن "شركات التصدير الكبرى تفضل بيع الأسماك لأوروبا لأنها تحصل على مدفوعات باليورو، بينما السوق المحلي يعتمد على الدرهم ولا يدر أرباحاً مماثلة". هذا التحليل يلقي الضوء على جانب اقتصادي قد يكون مفتاح الأزمة: الشركات الكبرى والصناعية تستحوذ على الحصة الأكبر من الصيد، بينما الصيادون التقليديون، الذين يمثلون غالبية العاملين في القطاع، يكافحون لتلبية احتياجات السوق الداخلية.

الفوضى الداخلية: الوسطاء والصيد غير القانوني

لكن التصدير ليس العدو الوحيد. فوضى السوق المحلية تلعب دوراً كبيراً في تفاقم الأزمة. الوسطاء، أو "الشناقة" كما يطلق عليهم في الأسواق المغربية، يشكلون حلقة أساسية في رفع الأسعار. يشترون الأسماك من الصيادين بأسعار زهيدة – أحياناً لا تتجاوز درهمين لكيلوغرام السردين – ثم يبيعونها للتجار بأضعاف تلك القيمة. هذه السلسلة غير المنظمة تجعل السمك يصل إلى المستهلك النهائي بسعر يفوق قدرته الشرائية.

لكن المشكلة الأكثر خطورة تكمن في الصيد غير القانوني وغير المنظم، الذي كشف تقرير حديث لمنظمة "غرينبيس" أنه يستنزف المخزون السمكي المغربي بمعدل يهدد استدامة القطاع على المدى الطويل. فكيف يحدث هذا؟ ومن يقف وراءه؟ ولماذا يستمر رغم الجهود المعلنة لمكافحته؟

وفقاً للتقرير، تعمل سفن صيد ضخمة، بعضها تابع لشركات أجنبية من دول مثل إسبانيا والصين وروسيا، في المياه الإقليمية المغربية دون تراخيص كافية أو باستخدام تصاريح مزورة. هذه السفن تستخدم تقنيات صيد متطورة، مثل الشباك الجارفة، التي تجمع كميات هائلة من الأسماك دون تمييز، بما في ذلك الأنواع الصغيرة التي لم تصل بعد إلى مرحلة النضج. هذا النهب المنظم لا يقلل فقط من المخزون المتاح للصيادين المحليين، بل يهدد أيضاً التكاثر الطبيعي للأسماك مثل السردين والأخطبوط، وهي الأنواع الأكثر استهدافاً.

لماذا يستمر هذا الوضع؟ الإجابة تكمن في ضعف الرقابة البحرية. المغرب، رغم امتلاكه أسطولاً لخفر السواحل، يعاني من نقص الموارد البشرية والتكنولوجية لمراقبة سواحله الشاسعة التي تمتد على أكثر من 3500 كيلومتر. إضافة إلى ذلك، تشير تقارير إلى وجود تواطؤ محتمل بين بعض المسؤولين المحليين وهذه الشركات، حيث يتم التغاضي عن المخالفات مقابل رشاوى أو منافع شخصية. على إكس، كتب أحد المستخدمين: "السمك يسرق من بحرنا أمام أعيننا، والحكومة تتفرج.. من المستفيد؟".

من يقف وراء هذا الصيد غير القانوني؟ إلى جانب الشركات الأجنبية، هناك سفن محلية تعمل خارج الإطار القانوني، مستغلة الفوضى في تسجيل التراخيص وغياب قاعدة بيانات دقيقة لتتبع نشاط الصيد. هذه الأنشطة لا تؤثر فقط على الكمية المتاحة في السوق المحلية، بل تزيد من الضغط على الصيادين التقليديين الذين يجدون أنفسهم في منافسة غير عادلة مع هذه القوى الكبرى.

حلول ممكنة أم أزمة مستمرة؟

أمام هذا الواقع، تتزايد الأصوات المطالبة بإصلاحات جذرية. على إكس، اقترح مغردون فرض حصص تصدير محددة لضمان توفر الأسماك في السوق المحلية، بينما دعا آخرون إلى دعم الصيادين التقليديين من خلال تعاونيات تبيع مباشرة للمستهلكين، متجاوزة الوسطاء. لكن في ظل تهديد الصيد غير القانوني، يبدو أن الحل الأكثر إلحاحاً يكمن في تعزيز الرقابة البحرية عبر استثمارات في التكنولوجيا، مثل الرادارات والطائرات المسيرة، وتشديد العقوبات على المخالفين، سواء كانوا أفراداً أو شركات.

هناك أيضاً دعوات لإعادة توجيه جزء من عائدات التصدير لدعم الأسر الفقيرة، أو تخصيص كميات من الأسماك بأسعار مدعومة في الأسواق الشعبية، خاصة مع اقتراب مواسم الطلب العالي مثل رمضان.

من يملك السمك؟

المغرب يقف اليوم أمام تحدٍ كبير: كيف يمكن التوفيق بين طموحه كقوة تصديرية عالمية وحق مواطنيه في الاستفادة من ثرواتهم الطبيعية؟ السمك، الذي كان يوماً رمزاً للبساطة والوفرة، تحول إلى سلعة تثير الجدل والاستياء. وبينما تتجه الأنظار نحو الحكومة لاتخاذ قرارات حاسمة، يبقى السؤال معلقاً: هل السمك المغربي ملك للمواطن أم للسوق العالمية والجهات التي تستنزفه في الخفاء؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق