تفكيك صندوق المقاصة في المغرب: الفقراء والطبقة الوسطى في مواجهة "إصلاح" مثير للجدل
تعيش الساحة الاقتصادية والاجتماعية في المغرب على وقع نقاشات حادة حول مصير صندوق المقاصة، الذي بدأ تفكيكه تدريجيًا منذ عقد، في إطار سياسات حكومية تهدف إلى رفع الدعم عن المواد الأساسية وتوجيه الموارد المتاحة نحو برامج التحويلات النقدية المباشرة. ورغم مضي سنوات على التحرير الكامل لأسعار المحروقات، إلا أن جدوى هذه الإصلاحات ما زالت محل تساؤل، خصوصًا في ظل تدهور الوضع المعيشي للفئات الفقيرة والطبقة الوسطى.
زعنون: رفع الدعم لم يحقق أهدافه الاجتماعية
يرى الباحث في القانون العام والعلوم السياسية عبد الرفيع زعنون أن الإصلاحات المتعلقة بنظام المقاصة لم تنجح في تحقيق الأثر الاجتماعي المأمول. ففي ورقته البحثية المعنونة "تفكيك صندوق المقاصة في المغرب: هل تدفع الفئات الفقيرة والمتوسطة ثمن الإصلاح؟"، يؤكد زعنون أن رفع الدعم عن المحروقات والغاز لم يصاحبه تطوير سياسات تنموية قادرة على حماية القوة الشرائية للمتضررين، مما أدى إلى دفع شرائح واسعة من الطبقة الوسطى إلى الاقتراب من خط الفقر، وزاد من معاناة الفئات الهشة.
ويضيف الباحث أن التحويلات النقدية المباشرة، التي تعتمد عليها الحكومة كبديل للدعم الشامل، تعاني من عيوب بنيوية. فهي تقتصر على التخفيف من حدة الفقر دون أن تقدم حلولاً جذرية، كما أنها تعتمد على سياسات انتقائية قد تستبعد عدداً كبيراً من المستحقين، في ظل غياب نظام ضريبي عادل لتمويل هذه التحويلات.
من الدعم الشامل إلى الدعم النقدي: انتقال محفوف بالمخاطر
تؤكد الورقة البحثية أن الحكومة المغربية تبنت منذ عام 2015 سياسة التحرير الكامل لأسعار الوقود، وشرعت في مايو 2024 في تقليص الدعم عن غاز البوتان، بهدف توجيه وفورات صندوق المقاصة إلى برامج التحويلات النقدية التي من المتوقع أن تصل ميزانيتها إلى 3 مليارات دولار بحلول 2026.
ورغم التبرير الرسمي بأن نظام المقاصة كان يخدم الأغنياء أكثر من الفقراء، يرى زعنون أن إلغاء هذا النظام يهدد آخر قلاع الدولة الاجتماعية، ويعرض الفئات الفقيرة والطبقة الوسطى لمخاطر اقتصادية كبيرة في ظل غياب إجراءات تعويضية كافية.
الطبقة الوسطى: الخاسر الأكبر
يرى زعنون أن الطبقة الوسطى تتحمل عبئاً مزدوجاً جراء تفكيك صندوق المقاصة. فمن جهة، تضطر هذه الفئة إلى شراء المواد الأساسية بأسعار السوق المرتفعة، دون أن تستفيد من أي دعم، ومن جهة أخرى، تساهم بشكل غير مباشر في تمويل برامج الدعم الاجتماعي الجديدة عبر الضرائب والمساهمات الاجتماعية، مثل المساهمة على الدخل التي تصل نسبتها إلى 1.5% على الأجور التي تتجاوز 20 ألف درهم.
ويحذر الباحث من أن استمرار هذا الوضع قد يدفع شرائح كبيرة من الطبقة الوسطى إلى السقوط في دائرة الفقر، مما يهدد بتقويض الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي على المدى الطويل.
الأسر الهشة: دعم غير كافٍ
تشير الدراسة إلى أن الفئات الفقيرة، رغم حصولها على مساعدات نقدية، لا تزال تعاني من ضعف قيم هذه المساعدات، خاصة مع تزايد معدلات التضخم. كما أن آليات الاستهداف تستبعد عدداً كبيراً من الأسر المستحقة، إذ تصل نسبة الاستبعاد في بعض التجارب الدولية إلى 70%، كما هو الحال في المكسيك، وحتى في جورجيا، التي تُعتبر نموذجاً ناجحاً، تم استبعاد 46% من أفقر 10% من السكان.
ويبرز زعنون أن الإنفاق على غاز الطهي يشكل عبئاً ثقيلاً على ميزانيات الأسر الفقيرة، التي تفضل الاعتماد على الغاز بدلاً من الكهرباء، بينما تلجأ بعض الأسر إلى التدفئة بالحطب، مما يعكس حجم الضغوط التي تواجهها هذه الفئات.
فشل مزدوج لتحرير الأسعار
بحسب الباحث، فإن تحرير أسعار المواد الطاقية لم يحقق التوازنات الماكرو-اقتصادية المرجوة، كما لم يحافظ على التوازنات الاجتماعية. فقد فشلت الحكومة في استخدام وفورات رفع الدعم لتحسين مستوى الخدمات الاجتماعية أو تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي، مما جعل تأثيرات هذه السياسات سلبية على الفئات الأضعف.
وتشير الورقة إلى أن القطاع غير المهيكل، وخصوصًا الزراعة، تأثر بشكل كبير جراء ارتفاع أسعار المحروقات، ما زاد من هشاشة الاقتصاد الريفي وأدى إلى تفاقم الفقر في المناطق القروية.
الوسط المفقود: فئة مغيبة عن الدعم
تسلط الدراسة الضوء على ما يسمى بـ"الوسط المفقود" (Missing Middle)، وهي فئة من العمالة غير المنظمة التي تنتمي إلى الطبقة الوسطى، لكنها لا تستفيد من التغطية الصحية أو معاش التقاعد بسبب عدم انخراطها في الضمان الاجتماعي، كما تُقصى من برامج الدعم الموجهة للفقراء، ما يجعلها عرضة لخطر الفقر بشكل متزايد.
دعوة لإعادة النظر في سياسة المقاصة
يدعو زعنون إلى إعادة تقييم السياسات الحالية المتعلقة بصندوق المقاصة، ووضع مقاربة جديدة توازن بين حماية القدرة الشرائية للفئات الهشة وتقليص الهدر المالي. كما يشدد على ضرورة تصميم سياسات اجتماعية شاملة تهدف إلى معالجة جذور التفاوتات الاجتماعية، وليس مجرد التعامل مع أعراضها.
تكشف الدراسة عن واقع اجتماعي واقتصادي مقلق، حيث يبدو أن تفكيك صندوق المقاصة في المغرب لم يحقق الأهداف المعلنة من حيث العدالة الاجتماعية أو الاستقرار المالي. وبينما تراهن الحكومة على التحويلات النقدية كحل بديل، يظل السؤال مطروحًا: هل تكفي هذه المقاربة لحماية الفئات الفقيرة والطبقة الوسطى من تداعيات رفع الدعم، أم أنها ستعمق الفجوات الاجتماعية وتدفع نحو مزيد من الهشاشة؟